ثقافة

مسرح دمى يتنقل يين المنازل المدمّرة في ريف إدلب

يضع وليد أبو راشد على رأسه باروكة المهرج الصفراء اللون، ويحمل لوحه الخشبي وكيسه المليء بالدمى ويسير بين مباني مدينة سراقب المدمرة وخلفه يتراكض عشرات الأطفال المتلهفين لمشاهدة عرضه المسرحي الجديد.

يتنقل وليد (26 عاماً) منذ سنوات بين مناطق عدة في محافظة إدلب في شمال غرب سورية للترفيه عن الأطفال العالقين في دوامة الحرب والمعارك، في منطقة لا تزال بمعظمها خارج سيطرة قوات النظام وتشهد بين الحين والآخر حملات عسكرية دموية، آخرها قبل أشهر.

بعد انتهاء دوامهم المدرسي، يتسمر عشرات الأطفال أمام المسرح بين ركام الأبنية المدمرة في سراقب في الهواء الطلق وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامات عريضة.

وعبر فتحتين استحدثهما في لوح خشبي، يحرّك وليد دميتين على شكل أسد وفأر، فيصفّق الأطفال بحرارة.

وعلى وقع موسيقى تصدح من هاتف وليد الموصول بمكبر صوت، يردد الأطفال أغنية “ما أحلى أن نعيش في خير وسلام”.

ينتهي العرض، ويقول وليد لوكالة فرانس برس وهو يجمع أغراضه، “المسرح جزء أصيل من ثقافة وحضارة إدلب”، مضيفاً “سأحارب الطغاة من خلال الفن”.

تقترب ملاك ابنة العاشرة من المسرحي، وتقول مبتسمة “نصادف العم وليد ونحن عائدون من المدرسة. يجعلنا نضحك وينسينا أجواء القصف والخوف”.

تسيطر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على الجزء الأكبر من محافظة إدلب، حيث تنشط فصائل أخرى معارضة وإسلامية أقل نفوذاً. وتؤوي إدلب مع أجزاء من محافظات مجاورة نحو ثلاثة ملايين نسمة، نصفهم نازحون من مناطق أخرى.

ومنذ سيطرة الفصائل المعارضة عليها في العام 2015، لم تهنأ محافظة إدلب بفترات هدوء طويلة، وغالباً ما تتعرض لعمليات عسكرية تخلف مئات القتلى ومئات آلاف النازحين.

في نهاية نيسان، بدأت قوات النظام السوري بدعم روسي عملية عسكرية سيطرت بموجبها على مناطق عدة في ريف إدلب الجنوبي قبل أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار برعاية روسية – تركية في نهاية آب.

ودفع الهجوم الذي استمر أربعة أشهر 400 ألف شخص إلى النزوح، كما ألحق الضرر بعشرات المنشآت الصحية والتعليمية. وأودى بحياة أكثر من ألف مدني، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.

قبل اندلاع النزاع السوري في العام 2011، كان وليد يطمح بالدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.
ويقول، وهو يشعل سيجارة “نلت عام 2011 جائزة أفضل ممثل مسرحي في إدلب، وبدأت ترتسم ملامح مستقبلي الفني”.
ويضيف “لكنني اخترت الوقوف إلى جانب الثورة والانخراط في جموع المتظاهرين، فالمسرح لا يمكن أن يقدم رسالة تحت حكم نظام قمعي”.

وبدلاً من الدراسة، انضم وليد إلى فرقة “الكرفان السحري” التي قدمت عروضاً مسرحية للأطفال في مخيمات النازحين، المنتشرة بشكل أساسي قرب الحدود التركية.

لم يطل عمر الفرقة كثيراً وتوقف نشاطها بعد مقتل مؤسسها في قصف لقوات النظام ببرميل متفجر في سراقب مطلع العام 2014.

بعد أشهر قليلة، انطلق وليد وحده، ونظم أول عرض لمسرح الدمى في مخيم للنازحين في ريف اللاذقية الشمالي المحاذي لإدلب.

ويقول وليد “لم أقدر على حبس دموعي بعد التصفيق المطوّل الذي حظيت به فور انتهاء العرض”.

يرتشف من كأس الشاي أمامه، ويضيف “في تلك اللحظة اتخذت قرار مواصلة تقديم العروض في أي بقعة سورية أستطيع الوصول إليها”.

ويتذكر طفلاً سأله في إحدى المرات “لماذا لا تتحدث ألعابي مثل الدمى؟”. وأصر ببراءته أن تشارك ألعابه في العمل المسرحي المقبل “فتتعلم النطق والرقص”.

تحول وليد مع مرور الوقت إلى نجم مسرح في مدينته سراقب.

وبعد اشتداد القصف مؤخراً، حوّل قبو منزله إلى مساحة لتقديم عروضه المسرحية للأطفال، ليكون بديلاً عن الساحات العامة، التي يصبح التواجد فيها بمثابة “انتحار”، خلال التصعيد العسكري.

لم يكن اختيار وليد لمكان العرض البديل عشوائياً، فالملجأ مصمم بما يناسب تقديم عمل مسرحي فيه، سقفه مقوس، وتكسو جدرانه أحجار رخامية تعكس ضوءاً خافتاً يشع من فوانيس نحاسية معلقة في كل ركن، وتصطف الدمى بأصنافها العديدة إلى جانب قصص قصيرة وروايات وكتب في خزانة الغرفة الحجرية.

لا يريد وليد أن ينقطع عن عمله المسرحي أبداً، رغم انقطاع التيار الكهربائي المتواصل وارتفاع كلفة المولدات والوقود اللازم لتشغيلها.ويقول، أثناء جلوسه على أنقاض منزل مدمر، “أعدكم أن هذه الأعمال لن تتوقف”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى